السبت، 24 أكتوبر 2015

وقفات مع أثر ابن أم عبد رضي الله عنه

عن عمرو بن سلمة الهمداني قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعدُ؟
قلنا: لا بعدُ.
فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر - والحمد لله - إلا خيراً.
قال: فما هو؟
فقال: إن عشت فستراه.
قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصاً، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة.
قال: فماذا قلت لهم؟
قال: ما قلت لهم شيئاً انْتِظَار رأيك أو انْتِظَارَ أمرك.
قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم؟
ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟
قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصاً نعد به التكبير والتهليل والتسبيح.
قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم، أو مفتتحوا باب ضلالة؟!
قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير.
قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم! ثم تولى عنهم.
فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج.

الوقفة الأولى: تخريجه:
أخرجه الدارمي في "مسنده" (1/286) برقم (210)، وبحشل في "تاريخ واسط" ص: (198) من طريق عمرو بن يحيى بن عمرو بن سلمة الهمداني عن أبيه عن جده.
رجاله:
1-  عمرو بن يحيى: وثقه ابن معين. انظر: "الجرح والتعديل" (6 /269).
2-  يحيى بن عمرو بن سلمة: قال يعقوب بن سفيان: لا بأس به. ووثقه العجلي. انظر: "المعرفة والتاريخ" (3/104)، و"الثقات" للعجلي (1990)، وروى عنه شعبة كما في "الجرح والتعديل" (9/176)، وكان شعبة ينتقي شيوخه الذين يروي عنهم.
3-  عمرو بن سلمة الهمداني: وثقه ابن سعد والعجلي وذكره ابن حبان في "الثقات", وابن خلفون في "الثقات". انظر: "تهذيب التهذيب" (8/42)، و"إكمال تهذيب الكمال" (10/181)، و"الثقات" للعجلي (1385)، وقال الحافظ في "التقريب" (5041): (ثقة).
والأثر له متابعات كثيرة, وقد صحح إسناد هذا الأثر الشيخ الألباني - رحمه الله - في "السلسلة الصحيحة" (2005).

الوقفة الثانية: قوله: (أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟):
في هذا أدب أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مع من هو أعلم منه وهو عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وكان أبو موسى شديد التوقير والاحترام لابن مسعود، قال ابن رجب في شرح حديث أبي الدرداء: (وصح عن أبي موسى أنه قال: لمجلس أجلسه مع عبدالله بن مسعود أوثق في نفسي من عبادة سنة).

الوقفة الثالثة: قوله: (ولم أر والحمد لله إلا خيراً):
فيه أن البدعة ليست شراً محضاً ولو كانت شراً محضاً لما اغتر بها كما أشار إلى ذلك ابن تيمية في "الاستقامة" و"درء التعارض" وابن عبد الوهاب في مسائل "كتاب التوحيد".

الوقفة الرابعة: قوله: (انتظار رأيك أو قال: انتظار أمرك):
فيه عدم التقدم بين يدي أهل العلم وهذا أدب قرآني في النوازل كما قال تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ..) وفعل هؤلاء يعتبر نازلة جديدة لا سابقة لها في الإسلام.

الوقفة الخامسة: قوله: (أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم؟):
فيه اشتغال السلف بما ينفعهم دون ما ليس كذلك فإن عدَّ السيئات نافع ليتقلل منها ويتاب منها بخلاف الحسنات فلا فائدة من عدِّها.
وفيه أيضاً ذم البدع الإضافية.

 الوقفة السادسة: قوله: (قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح):
فيه أن البدع تدخل في الوسائل كما تدخل في الغايات خلافاً للشاطبي وهو اختيار ابن تيمية في "الاقتضاء" ويدل عليه هدي السلف ومن ذلك فعل ابن مسعود هذا.

الوقفة السابعة: قوله: (ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم!):
فيه سرعة انتشار البدع لذا أدركها الصحابة وهذا من أسباب شدة السلف على البدع والمبتدعة حتى لا تنتشر وتشيع.

الوقفة الثامنة: قوله: (هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون):
فيه أن البدع تقل في الأماكن التي يوجد فيها أهل العلم.

الوقفة التاسعة: قوله: (وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر):
فيه أنه كلما قرب العهد بالنبوة قلت البدع وكذلك العكس.

الوقفة العاشرة: قوله: (والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة؟!):
هذا اللازم مضطرد في كل بدعة وفي كل مبتدع فهو ما بين أن يكون أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتح باب ضلالة، وهذا مضطرد في البدع الاعتقادية والسلوكية والدعوية وغيرها واستعمال ابن مسعود لهذا اللازم هو من باب السبر والتقسيم.

الوقفة الحادية عشرة: قوله: (وكم من مريد للخير لن يصيبه):
في هذا أن حسن النية لا يكفي للنجاة وليس دليلاً على حسن الفعل وأن من أراد النجاة فليجمع بين حسن النية وحسن العمل.

الوقفة الثانية عشرة: قوله: (إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم):
وأخرج هذا الأثر ابن أبي شيبة في "مصنفه" (7/553) برقم (37890) من طريق عمرو بن يحيى وفيه: (أن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ..)، فهم بعض العلماء من هذه الزيادة أن الخوراج كفار والذي يظهر أنهم مسلمون وليسوا كفاراً بل حكى شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" و"الفتاوى" إجماع الصحابة على عدم كفرهم قال - رحمه الله -: (بل كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة، ولم ينكر أحد على علي ذلك، فعُلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام).
"منهاج السنة" (٢٤١/٥).
ويحمل الدين في قوله ﷺ: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) على كماله الواجب أي أنهم يمرقون من كماله الواجب كما يمرق السهم من الرمية، ورى البيهقي عن علي أنه لم يكفرهم، وأخرج ابن سعد في "طبقاته" أن ابن عمر صلى خلفهم وهذا مما يدل على إسلامهم.
وما روي عن أبي أمامة أنه يكفرهم فضعيف لا يثبت.

الوقفة الثالثة عشرة: قوله: (فرأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج):
فيه أن البدع تبدأ صغاراً ثم تكون كباراً قال البربهاري – رحمه الله -: (واحذر صغار المحدثات من الأمور؛ فإن صغير البدع يعود حتى يصير كبيراً، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيراً يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها، فعظمت وصارت ديناً يدان بها، فخالف الصراط المستقيم، فخرج من الإسلام).

 كتبه: صبري المحمودي
10 . 1 . 1437 هجري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق