الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد بلغني رد المدعو أحمد النجار على مقالي "متى يخرج الرجل من السنة إلى البدعة؟" فأحببت أن أبين بعض الأمور التي ظنها خطأ أو خلطاً كما سماها الراد فأقول مستعيناً بالله طالباً منه سبحانه التسديد في القول العمل وأن لا يجعل بياني هذا انتصاراً للنفس بل توضيحاً ونصحاً للراد وغيره:
قال عفا الله عنه: (جوابي عنه مجمل ومفصل.
ومحل الجواب: في السني الذي وقع في بدعة, لا في المبتدع الأصلي).
قلت: لقد جعلتُ للمقال عنواناً وهو (متى يخرج الرجل من السنة إلى البدعة) فالمسألة التي تناولها المقال قد بينها هذا العنوان، وهو أن الرجل السني السلفي إذا وقع منه خطأ فهل هذا الخطأ يخرجه من السنة؟ ومتى يخرجه؟
والمخالف عموماً إما أن يخالف في قاعدة كلية تندرج تحتها مسائل وفروع أو في جزئي لا يندرج تحته شيء، وهذا الجزئي إما أن يكون قد اشتهر الخلاف فيه بين أهل السنة وبين أهل البدع أولا؟
ومن المتقرر أيضاً أن الأخطاء على مراتب:
فمن الأخطاء ما إذا وقع فيه الشخص كفر مباشرة كسب الرب والعياذ بالله.
ومن الأخطاء ما يبدع بها الشخص ويخرج بها من السنة إلى البدعة وهذا محل البحث.
ومن الأخطاء ما يناصح فيه الشخص ولا يثرب عليه ويبقى معنا في دائرة الإسلام والسنة.
قال النجار عفا الله عنه: (أما الجواب المجمل فمن وجوه:
الأول: حصل في هذا الكلام خلط بين البدعة كوصف وبين تنزيلها على المعين.
وهذا بعيد عن التأصيل؛ لأن البدع مقتضية للحكم لا موجبة، فليس مجرد الوقوع في البدعة يكون صاحبها مبتدعا, بل لابد من توفر الشروط وانتفاء الموانع).
قلت: هذا الذي ذكر أنه خلط هو في الحقيقة محل النزاع، فقد بينت في المقال أن السلف رحمهم الله تعاملوا في باب البدعة بغير التعامل الذي تعاملوا به في باب التكفير والتفسيق، وإن كان التكفير والتفسيق والتبديع كلها من باب الأسماء والأحكام، لكن السلف هم الذين فرقوا، ولا أظن الراد يجهل أن فعل السلف حجة، وسأوضح هذا في بقية الرد.
قال النجار عفا الله عنه : (الثاني: متناقض غير منضبط).
قلت: أما هذه فأتركها للقارئ الكريم فهو الحكم!
قال النجار عفا الله عنه : (الثالث: بعض الكلام ليس مرتبا, ولا متسقا بما قبله وما بعده, مثل " وذلك أن أهل العلم لم يكتبوا ويرووها لنا ما جرى منهم").
قلت: هذه العبارة احتوت على أمرين:
الأمر الأول: وصفه للكلام بأنه غير مرتب ولا متسق، ولعل هذا الكلام أصاب شيئاً في نفسي فالله أسأل أن لا يصيبه حظ نفسي، وكان الواجب عليه في ظني أن يقول: وأما هذه الجملة أو هذه العبارة لم تتضح لي أو لم يتبين لي وجهها ونحو هذه العبارات بدلاً من الترفع في الكلام.
الأمر الثاني: فإني أردت بهذه العبارة أن أبين حجية هذا التقرير الذي ذكرت، فقلت إن السلف رحمهم الله لم يكتبوا لنا ما جرى بينهم وبين أهل البدع في كتب السنة عبثاً، وإنما كانت على وجه البيان لمنهج سلكوه في زمن ظهور البدع، والعبرة بمجوعها لا بآحادها، ولقد رأينا بعضهم ردها جملة وتفصيلاً وقال لا تلزمني، وكذلك رأينا من غلا فيها وأعملها على خلاف ما أراد السلف رحمهم الله.
قال النجار عفا الله عنه: (أما الجواب المفصل فمن وجوه:) ثم قال: (عدم المعرفة الدقيقة بمعاني هذه الأسماء؛ لأن البدعة عند الأئمة نوع من أنواع الفسق, قال ابن القيم في المدارج: (( وهو قسمان فسق من جهة العمل وفسق من جهة الاعتقاد ... وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع )) فإذا كان التفسيق موافقا للتكفير في قيام الحجة, فكذلك التبديع؛ لأنه نوع من أنواع التفسيق.
وهذا وحده كافٍ في إبطال الكلام من أصله).
قلت: كلام ابن القيم رحمه الله اشتمل على الفسق بنوعيه، والراد يريد أن يقول أن البدعة نوع من الفسق، والتفسيق لابد له من توفر الشرط وانتقاء المانع بإطلاق، ولكن هذا يخالف ما قرره الراد في رسالته "تبصير الخلف" أن الرجل إذا خالف في مصدر التلقي فإنه يبدع مباشرة ولا يشترط إقامة الحجة عليه أما إذا كان مصدر التلقي عنده سليماً فلا يبدع إلا بعد إقامة الحجة عليه ولو خالف في أصل من أصول السنة فما قاله هو عين التناقض وكان الواجب عليه هو توجيه كلام ابن القيم توجيهاً يتوافق مع ما أصله.
وكلام ابن القيم يلزمه في كل من وقع في البدعة لأنها نوع فسق، فعلى تقريره يكون قيام الحجة في كل بدعة ولو كانت مخالفة في مصدر التلقي فتنبه.
فإذا قلت أن هناك ضوابط تُخرج من خالف في مصد التلقي فيقال هذا لازم لك في كل تفريق.
تنبيه: أكثر أهل البدع في زمن ابن القيم وشيخه هم الأشاعرة وأكثر الخصومة إنما كانت معهم لا سيما وقد كانت الغلبة لهم والشوكة وهذا لا أظنه يخفى على أحد.
قال النجار عفا الله عنه: (أن السلف في باب التبديع لم ينزلوه على المعين مباشرة, ولهذا الأئمة في مواقف متعددة لم يبدعوا من وقع في البدعة مباشرة).
قلت: وكذلك السلف رحمهم الله جاء عنهم أنهم أنزلوا الحكم على المعين دون قيام الحجة عليه، فحكم الثوري على الرُّبيع بأنه قدري لم يكن بعد إقامة الحجة وإنما سأل عن جلسائه فلما علم أنهم قدرية ألحقه بهم.
وهنا يتنبه إلى مراد السلف بالمجالسة وأنهم يعنون الألفة والموادة وليس مجرد المخالطة وقد قالوا: (من خفيت علينا بدعته لم تخف علينا ألفته).
وعليه فمجرد المخالطة التي قد تفرض على الشخص لا تعد مجالسة.
وسبب جعلهم المجلسة علامة على التلبس بالبدعة أن الألفة إنما تكون بموافقة في الطبع والمشرب وهذا معلوم لكل أحد.
وإذا كان السلف رحمهم الله وقع منهم هذا التفريق فالواجب هو معرفة الضابط في هذا التفريق وكلام ابن القيم ليس فيه تفريق مطلقا بل على توجيه الراد له فإنه يلزمه عدم التفريق مطلقا فكل مبتدع سواء خالف في مصدر التلقي أو في الأصول فإنه لا يبدع إلا بعد إقامة الحجة وذلك بتوفر الشروط وانتقاء الموانع والراد لا يقوله.
قوله النجار عفا الله عنه: (وكلام ابن القيم إنما يؤخذ منه أن باب التكفير والتفسيق واحد).
قلت: وقد تقدم هذا في أول الرد عند قولي: (وإن كان التكفير والتفسيق والتبديع كلها من باب الأسماء والأحكام،) وقبلها قلت: (إن السلف رحمهم الله تعاملوا في باب البدعة بغير التعامل الذي تعاملوا به في باب التكفير والتفسيق)، وقلت في موطن آخر: (ولو نظرنا لكتب السنة نجد أن السلف رحمهم الله سلكوا مسلكاً في التبديع لم يسلكوه في التكفير والتفسيق)، فبابها واحد من جهة أنها أحكام وليست واحدا من جهة تنزيل الحكم على المعين، وإن كان الراد يزعم التحقيق والتقعيد فلا يجعل كلام شيخ الإسلام وتلميذه حكماً على منهج السلف فكما لا يخفاه أن فعل السلف حجة بنفسه وصورة من صور الإجماع،إذ كيف يُجعل كلام العالم حكماً على الدليل؟!!
قال النجار عفا الله عنه: ( إن عمل السلف لا يؤخذ من أثر واحد, أو من أثر مطلق, وإنما يؤخذ عملهم بجمع بعضه إلى بعض).
قلت: وهذا حق كما سبق تقريره أن الحجة في مجموعها لا في آحادها وما ذُكر صورة من الصور وإلا فمن طالع كتب السنة علم هذا ولم ينازع فيه.
أما قول شيخ الإسلام في نصوص أحمد: (وكثير ..) لا أظن أنه يخفى على الراد أن هذا لا يؤخذ منه قاعدة إذا التقعيد للأمر الأغلبي، وأيضاً الكلام على المسائل التي ينزل عليها الحكم، وقد فرق شيخ الإسلام بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية في مواطن كثيرة، وتقسيمه أيضاً للنزاع في المسائل بين المسلمين إلى نزاع في "صغار المسائل"، ونزاع في "الأصول الكبار" قال شيخ الإسلام: (وسنتكلم على هذا بما يسره الله متحرّين للكلام بعلمٍ وعدلٍ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فما زال في الحنبلية من يكون ميله إلى نوع من الإثبات الذي ينفيه طائفة أخرى منهم، ومنهم من يمسك عن النفي والإثبات جميعا، ففيهم جنس التنازع الموجود في سائر الطوائف، لكن نزاعهم في مسائل الدق؛ وأما الأصول الكبار فهم متفقون عليها، ولهذا كانوا أقل الطوائف تنازعا وافتراقا، لكثرة اعتصامهم بالسنة والآثار، لأن للإمام أحمد في باب أصول الدين من الأقوال المبينة لما تنازع فيه الناس ما ليس لغيره، وأقواله مؤيدة بالكتاب والسنة واتباع سبيل السلف الطيب). "مجموع الفتاوى" (٤/ ١٦٦).
فتنبه لقوله: ( لكن نزاعهم في مسائل الدق؛ وأما الأصول الكبار فهم متفقون عليها).
بل هذا هو التقرير الذي درج عليه علمائنا فلا يجعلون أحكام التكفير كأحكام التبديع إذ الكفر أشد، وأحكام التكفير والتفسيق تترتب عليه أحكام تخص الشخص المكفر أو المفسق بخلاف الوصف بالبدعة فهو وصف تحذيري والأحكام المترتبة على التبديع المراد بها التأديب والزجر حماية للآخرين من المبتدع، ومن أراد التقعيد من كلام أهل العلم فليجمعه لبعضه ولا يجتزء منه ما وافق هواه وما عقد عليه قلبه فيعتقد ثم يستدل!
سئل شيخنا صالح الفوزان حفظه الله هل يشترط إقامة الحجة للتبديع فقال: (... ليس لأحد أن يحكم على شيء بأنه بدعة أو سنة حتى يعرضه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما إن فعله عن جهل وظن أنه حق ولم يبين له فهذا معذور بالجهل، لكن في واقع أمره يكون مبتدعاً، ويكون عمله هذا بدعة، ونحن نعامله معاملة المبتدع، ونعتبر أن عمله هذا بدعة)."المنتقى" (1 / 404).
وقال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله: (وأما من هو من أهل السنة ووقع في بدعة واضحة ... فهذا يبدع وعليه عمل السلف ... ومن كان من أهل السنة ومعروف بتحري الحق ووقع في بدعة خفية ... فيناصح ويبين له الحق ولا يتسرع في تبديعه فإن أصر فيبدع). بتصرف."المجموع" (14/288 _ 291).
وأما التفريق بين المبتدع الأصلي والمبتدع الغير أصلي فقد سألت ونظرت فلم أجد من قال به من السلف وإلا المخالفة في القواعد الكلية هو ما وقع فيه أصحاب الفرق كالخوارج والقدرية وغيرهم.
قال الشاطبي رحمه الله: (وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين، وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات؛ إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية، لأن الكليات تضم من الجزئيات غير قليل، وشأنها في الغالب أن لا تختص بمحل دون محل، ولا بباب دون باب)."الاعتصام" (2/177).
وكل الفرق تدعي الأخذ من الكتاب والسنة قديماً وحديثاً والخلل هو في كيفية الأخذ وهذا الخلل يوجد حتى فيمن يدعي الراد أن مصدر التلقي عنده هو الكتاب والسنة والإجماع.
قال الشاطبي رحمه الله:
(بل كل مبتدع من هذه الأمة إنما يدعي أنه هو صاحب السنة دون من خالفه من الفرق)."الاعتصام" (2/5).
واليوم على سبيل المثال السروريون مصدر التلقي عندهم الكتاب والسنة والإجماع، ولكنهم خاصة في مسائل الإمامة لم يعملوا النص بل أعملوا الهوى، فهل يقال أنهم من أهل السنة والجماعة لأن مصدر التلقي عندهم سليم.
وأذكر أني قبل أشهر سألت الراد عن المدعو الصادق الغرياني السروري والمظهر مخالفته هل هو سلفي؟
فقال لي الراد: لا.
قلت له: هل هو مبتدع؟
قال لي: لا.
قلت: إذا هو في منزلة بين منزلتين!!
لكن بزعمه سلم للغرياني مصدر التلقي!!
وأما أثر المجالسة فلو تأمله جيداً عفا الله عنه لتبين له أن أثر الإمام أحمد في المجالس، أن الجالس لا يعلم أنه مُجالسٌ لصاحب بدعة فلهذا طلب الإمام أحمد من أبي داود تعريفه، وقد بينت أن هناك فرقاً بين الألفة والمودة وبين المخالطة فليته تنبه.
وأنبه إلى القاعدة السلفية التي ذكرها العلامة الألباني رحمه الله: (الدعوة السلفية هي تحارب الحزبية بكل أشكالها وأنواعها، والسبب واضح، الدعـوة السلفية تنتمي إلى شخص معصوم وهو الرسول ﷺ).
قال النجار عفا الله عنه : [ومن الأمثلة: ابن خزيمة في حديث الصورة.
ومما يدل على أن مسألة الصورة أصل مجمع عليه ما يأتي:
قال الإمام أحمد: (( من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي )) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/236)] وذكر جملة من الآثار ..
قلت: للنجار رسالة صغيرة بعنوان "تحقيق معنى الصورة" ونقل فيها عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً استنبط منه النجار أموراً زعم أن الواحد منها يدل على أن حديث الصورة أصلٌ اشتهر الخلاف فيه بين أهل السنة وأهل البدعة، وأنقل كلام شيخ الإسلام الذي عول عليه وكذلك كلام النجار وتأصيله العجيب.
* نقل عن شيخ الإسلام من موضعين في "بيان تلبيس الجهمية":
1_ قال ابن تيمية رحمه الله: (هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله).
2_ وقال ابن تيمية رحمه الله: (ولكن ظهر لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة، وجعل طائفة الضمير فيه عائداً إلى غير الله تعالى، حتى نقل ذلك طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم، كأبي ثور وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم، ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة).
قال النجار بعد أن نقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد تضمن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أموراً:
الأول: أن تأويل الصورة لم يظهر إلا في المائة الثالثة من الجهمية.
الثاني: حكاية إجماع القرون الثلاثة على أن الضمير عائد إلى الله.
الثالث: إنكار أئمة الدين والسنة على من أرجع الضمير إلى غير الله).
ثم قال النجار عفا الله عنه وأرجو التأمل في تقريره هذا ليتبين وجه الخلل فيه:
(وهذه الأمور الثلاثة مفردة تدل على اشتهار المسألة ووضوحها وأنه لا يسوغ الخلاف فيها فكيف بمجموعها؟!
فهذه المسألة من المسائل التي تعد أصولا، لدلالة الإجماع، إذ إن الإجماع لا يسوغ مخالفته، فهو من حجج الله على خلقه.
ولا يصح أن يقال: هي جزئية، والجزئيات لا تعد أصولا، بل الجزئية متى ما وقع عليها الإجماع صارت أصلا من أصول أهل السنة).
قلت: نص شيخ الإسلام على اشتهار المخالفة التي يعد بها الرجل مبتدعاً فقال: (والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة). "الفتاوى" (35/414).
وقال في ظهور المخالفة وخفائها ولو كانت المسألة مجمع عليها: (من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع). " الفتاوى" (24/172).
مع التنبه هنا للمعاملة وليس الحكم إذ لا يلزم من كونه مبتدعاً أن يعامل معاملة أهل البدع، وأيضاً من الخلاف الذي يعذر فيه عدم اشتهار المخالفة.
وانظر لما نقله النجار عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله واستنبط منه أموراً تجعل الواحد من هذه الأمور تدل على اشتهار المسألة وجعلها من أصول أهل السنة:
1_ ففي النقل الأول نص شيخ الإسلام على أن المسألة لم يقع فيها نزاع بين أهل القرون المفضلة أي أن المسألة متفق عليها ولم يحصل فيها خلاف، فإذا علم هذا فكيف يقال إنها اشتهر الخلاف فيها وهي محل اتفاق بل لم يظهر المخالف فيها بعد؟!!
2_ في النقل الثاني عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن تأويل الصورة لم يظهر إلا في المائة الثالثة من جهة الجهمية وهنا بيان منه رحمه الله إلى بداية ظهور المخالفة وعدم اشتهارها ولا أدري من أين استنبط الراد الاشتهار فيها؟!!
ومما يدل على خفاء المسألة وعدم وضوحها أن بعض أهل السنة قال بقول الجهمية كأبي ثور وابن خزيمة وغيرهم إذ لو كان الخلاف قد وقع فيها واشتهر لما قال بها أحد من أهل السنة لكن لما قالوا بها بدأ يظهر إنكار أهل السنة على هذه المقالة وينتشر!
ومما يقال للنجار أيضاً هل مجرد وقوع الإجماع في مسألة خالف فيها أهل السنة أهل البدع تجعلها أصلاً مشتهراً؟!
ولا نذهب بعيداً فمسألة الصورة انعقد إجماع القرون المفضلة على أن الضمير يعود إلى الله ومع ذلك خفيت على ابن خزيمة إمام السنة في زمانه وعلى غيره من أهل السنة!!
فهذا يدلك على أنه قد يخفى الإجماع على بعض أهل العلم ولو كان عقدياً ولا أظن أن مثل هذا يخفى على طالب علم!
أيضاً من أول من السلف صفة من الصفات كتأويل القاضي شريح لصفة العجب ومع ذلك هو إمام بالاتفاق أليست الصفات أمراً مجمع عليه؟!!
ومنه أيضاً تأويل ابن عبدالبر لبعض الصفات وإنكار الكرخي لاستمرار إحساس الميت بالعذاب والأمثلة في هذا الباب كثيرة وهذه كلها مسائل لا يسوغ الخلاف فيها لوقوع الإجماع عليها ومع ذلك لم يشتهر الخلاف فيها بين أهل السنة وأهل البدع وهي أيضاً مسائل جزئية وليست قواعد كلية.
فاعتذر السلف رحمهم الله للقاضي شريح عندما أول صفة العجب ولم يعتذروا لمن نفى العلو وغيره من المسائل التي اشتهر الخلاف فيها بين أهل السنة وأهل البدع.
ثم قول النجار: (ولا يصح أن يقال جزئية).
قلت: إذا كانت مسألة الصورة غير جزئية فماذا تكون؟!
فالمسائل إما كلية تندرج تحتها جزئيات، أو جزئية لا يندرج تحتها شيء، فليت الراد يبين لي ما يندرج تحت مسألة الصورة من جزئيات!
ثم قال عفا الله عنه: (والجزئيات لا تعد أصولا، بل الجزئية متى ما وقع عليها الإجماع صارت أصلا من أصول أهل السنة).
قلت: هذه العبارة لم تتضح ولم يتبين لي وجهها فليته يجري قلمه عليها حتى لا أخطأ في توجيهها وفهمها!
قال أحمد النجار عفا الله عنه في رسالته "تبصير الخلف" بعدما تكلم على حديث الصورة وجعلها أصلا اشتهر الخلاف فيه بين أهل السنة وأهل البدعة: (ومما يؤكد ما سبق ما نقله الإمام ابن تيمية عن أبي الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي في كتابه الذي سماه "الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاما لذوي البدع والفصول": [في تأويل الشيخ أبي أحمد محمد بن علي الفقيه الكرجي الإمام المعروف بالقصاب للآيات والأخبار الواردة في إحساس الميت بالعذاب، وإطنابه في كتابه المعروف "نكت القرآن"، وذهابه إلى أن الميت بعد السؤال لا يحس طول لبثه في البرزخ ولا بالعذاب.
فنقول: هذا تأويل تفرد به ولم يتابعه الأئمة، والقول ما ذهب إليه الجمهور، وتفرده بالمسائل لا يؤثر ولا يقدح في درجاتهم]).
قلت: زعم أحمد النجار أن الكرجي وقع في مخالفة تعد أصلا اشتهر الخلاف فيه بين أهل السنة وأهل البدعة ولكن لا أدري من سبقه لهذا؟! وهل هو فهم حقيقة قول الكرجي؟!
وإليك كلام الكرجي رحمه الله من كتابه "نكت القرآن" عند قوله تعالى: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ..) الآية، قال رحمه الله: (وري عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل الثقات ما يؤيده من عرض مقاعد أهل القبور عليهم إياها بكرة وعشية، فقد يحتمل أن يكون هذا العرض بقية من المساءلة تمتد عليه، وطائفة من عذاب القبر تطول عليه بكرة واحدة وعشية واحدة، ثم يخمد فلا يشعر إلى الحشر بشيء، كما دللنا عليه).
فهنا يقرر الكرجي رحمه الله أن طائفة من عذاب القبر يستمر عليه بكرة واحدة وعشية واحدة ثم ينقطع الإحساس بالعذاب فلا يشعر بشيء إلى يوم القيامة فهو إذا يثبت عذاب القبر لكن لا يراه مستمرا إلى يوم القيامة فهل مخالفته في عدم استمرارية إحساس الميت بالعذاب تعد مخالفة في أصل مشتهر الخلاف فيه بين أهل السنة وأهل البدعة؟! أو يقال هي جزئية لم يشتهر الخلاف فيها بين أهل السنة وأهل البدعة؟!
وأترك الجواب للنجار فأظنه قد ادعى الاجتهاد في هذا الباب!
قال غفر الله له: (وفي كثير من أقوالك وآرائك أنت مقلد لغيرك وإن لم تصرح!).
قلت: وأما زعمه لي بأني مقلد غيري في هذه المسائل فالحمد لله أنا متبع ولست مقلداً ولا أظنه يخفى عليه الفرق بين الأمرين!
فالاتباع هو أخذ قول العالم بدليله أما المقلد فهو أخذ قول العالم بغير دليل!
وإن كنت مقلدا ديني في هذه المسألة للكبار الأعلام فهذا شيء أعتز به وأرجو ثوابه، وإليك كلام علمائنا في هذه المسألة:
سئل شيخنا صالح الفوزان حفظه الله هل يشترط إقامة الحجة للتبديع فقال: (... ليس لأحد أن يحكم على شيء بأنه بدعة أو سنة حتى يعرضه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأما إن فعله عن جهل وظن أنه حق، ولم يبن له فهذا معذور بالجهل، لكن في واقع أمره يكون مبتدعا، ويكون عمله هذا بدعة، ونحن نعامله معاملة المبتدع، ونعتبر أن عمله هذا بدعة). "المنتقى" (1 / 404).
وقال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله: (وأما من هو من أهل السنة ووقع في بدعة واضحة ... فهذا يبدع وعليه عمل السلف ... ومن كان من أهل السنة ومعروف بتحري الحق ووقع في بدعة خفية ... فيناصح ويبين له الحق ولا يتسرع في تبديعه فإن أصر فيبدع). بتصرف. "المجموع" (14/288 _ 291).
قد سألت شيخنا سماحة المفتي عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله عن اشتراط إقامة الحجة في التبديع فقال: (إن كانت المسألة ظاهرة جلية فلا وإن كانت خفية فنعم).
وأما جعله مجرد وقوع الإجماع في مسألة تصيرها أصلا من أصول السنة فهذه دعوى تحتاج إلى دليل فكم من مسألة وقع فيها الإجماع ولم يعتبرها أهل السنة أصلا حتى ينضم لها الاشتهار فضابط الأصل هو الاشتهار كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وعليه عمل السلف، قال ابن تيمية رحمه الله: (والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة). "الفتاوى" (35/414).
فالمسألة المجمع عليها لا تكون أصلاً إلا إذا ضم إليها ضابط الاشتهار, فقد أنكر القاضي شريح صفة العجب ومع ذلك هو إمام بالاتفاق، وإثبات الصفات مما أجمع عليه السلف، وكذلك فعل ابن خزيمة مع حديث الصورة وهي مسألة مجمع عليها، وإنكار الكرجي لاستمرار الإحساس بالعذاب إلى يوم القيامة مجمع عليه وغيرها كثير، ومع ذلك هي مسائل لم يشتهر الخلاف فيها وليست كلية بل جزئية خلاف ما يدعيه النجار.
قال أحمد النجار غفر الله له: (وهذا الاتفاق من السلف يجعل المسألة لا يسوغ لأحد أن يخالف فيها)، وقبلها قال: (كيف يجتمع أن تكون المسألة لا يسوغ الخلاف فيها, ومع ذلك قد تكون جزئية يعذَر المخالف فيها؟!).
قلت: يعذر المخالف فيها لعدم اشتهارها ووضوحها كما صنع الأئمة مع ابن خزيمة وأبي ثور والكرجي وغيره من علماء السنة إذا قالوا بقول مخالف للسنة.
وأما زعمه أن الاشتهار أمر نسبي لا تعلق به الأحكام الشريعة فهذا يقال أيضاً في إقامة الحجة فالناس في ذلك ليسوا سواء.
قال النجار غفر الله له: (وأما كلام الرازيين: (ومن وقف في القرآن جاهلاً علم وبدع ولم يكفر) فقد أراد بـ(وقف في القرآن جاهلاً علم وبدع) إخراج من وقف شكاً، فإن من وقف شكاً بعد إقامة الحجة يكون كافراً، وأما من وقف عن غير شك فإنه يكون مبتدعاً بعد إقامة الحجة ...) إلى آخر كلامه.
قلت: وهل التوقف في مسألة خلق القرآن لا يكون إلا عن شك؟!!
وأعيد الكلام مرة أخرى أن طريقة السلف في التبديع خلاف طريقتهم في التكفير فإنه في تبديع من يستحق البدعة لا يجعلون الجهل مانعاً، ففي عقيدة الرازيين أبي حاتم وأبي زرعة التي نقلوها عن أئمة السنة: (ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفراً ينقل عن الملة)، ثم قالا: (ومن وقف في القرآن جاهلاً علّم وبدع ولم يكفر). "اعتقاد أهل السنة" (1 / 178)، فلم يجعلوا الجهل مانعاً من التبديع بخلاف التكفير.
وكلام الرازيين في التبديع مع الجهل لا مع العلم لأنه لو علم وأصر على القول بأنه مخلوق لكفر كفراً ينقل من الملة كما بينه في سابق كلامه ولما اكتفي بتبديعه، إذاً يكون التبديع مع الجهل أما من علم أنه غير مخلوق وقال مخلوق فيكفر.
قال أحمد النجار غفر له: (وأكتفي بهذا القدر, وإنما أردت أن أبين مقدار علمه في هذه المسائل).
قلت: ينبغي لطالب العلم أن لا يحتقر إخوانه ويسفه أقوالهم، خاصة إذا كان لهم سلف فيما يقولون، وأن يعلم أنه مهما بلغ من العلم فإنه جاهل في حقيقة أمره، كيف وهو لم يتجاوز الخامس والثلاثين من عمره، وليعلم أن العلم ثمرته العمل، ومن العمل التواضع والسكينة للخلق وعدم الترفع عليهم برأيتُ وقلتُ وأبين مقدار علمهم إلى آخر هذه العبارات، بل أذكر أكثر من مرة يستشكلُ سماحة شيخنا عبدالعزيز آل الشيخ في مسائل لو طرحت عند المتعالمين لسارعوا في التنصنيف والكتابة، ولما طُلب من شيخنا عبدالله الغديان أن يُجمع له مجموع فتاوى وقد جُمع رفض وقال: (أنا ليس عندي شيء)، بل هذا شيخنا صالح اللحيدان لم نجد له تأليفاً واحدا حسب علمي وهو في العلم من هو.
بل ينبغي طرح المسائل العلمية لأجل المباحثة العلمية والوصول من خلالها للحق، وأنا عن نفسي أعترف بأني جاهل ولازلت في إطار التعلم والتلقي على الأشياخ والعلماء، ولكن رأيت بحسب رأي القاصر أن المسألة لم ينصفها الراد بحثاً بل نتج من بحثه التميع مع أهل البدع، وقد أوضحت شيئاً من هذا، والله أرجو أن يهديه ويسدده في قوله وعمله، وأن يجعل كلمة الشافعي عبرة لي وله وهي قوله: (ما ناظرت أحداً إلا وتمنيت أن يجري الله الحق على لسانه)، وأسأله سبحانه أن يغفر لي زللي وخطئي وحظ نفسي وما أصبت فيه فمن الله وحده وما أخطأت فيه فمن نفسي والشيطان.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
كتبه: صبري المحمودي
19 . 7 . 1436 هجري